جزئية في علم المنطق يقال لها المادة والهيئة , عندما تدرس هذه الجزئية أو تقرأ يمر عليها مرور الكرام ولا يلتفت الى عظمها وكيف أنها تعطينا فهما سديدا وقراءة صحيحة للأحداث , لا نطيل نشرح الهيئة والمادة ثم نبيّن الجوانب التي تصححها لنا هذه الجزئية التي لم توضع ككتاب يدرّس حتى ..
الهيئة والمادة : أما الهيئة هي شكل المواد في القياس المنطقي .
و المادة هي القضايا التي يتركب ويتألف منها القياس المنطقي .
ولننظر مثالين للهيئة والمادة :
( مثال المادة والهيئة )
كل من يشرب الخمر فاسق
خالد يشرب الخمر
اذن : خالد فاسق
أما الهيئة فهي الشكل النهائي للمواد كما ترون.
ان هذه المسألة بسيطة جدا كونها قياس منطقي, صحيح المادة وصحيح الهيئة , فصحة المواد مستوحاة من وحي الهي قال بأن شارب الخمر فاسق ..
لكن كلامنا يقع في ( تعارض المادة مع الهيئة ) كقولنا :
كل دولة ديموقراطية عادلة
اسرائيل دولة ديموقراطية
اذن : اسرائيل عادلة
فهذا القياس المنطقي صحيح المواد لكنه غير صحيح الهيئة . صحّة المواد من ان الدولة الديموقراطية ماكانت كذلك الا أن تكون عادلة . وما نشأ هذا النظام الا ليكون عادل ويحقق العدالة للجميع والهيئة غير صحيحة كون أن الجميع يحكم بعدم عدالة اسرائيل ولو انسانيا لما تحدثه هذه الدولة بهذا النظام وتسميتي لها دولة لوقوع ذلك في المجتمع الدولي ولو أني اعتقد غير ذلك .
وأنوّه الى ان القياس هنا ليس قياسا صوريا كقولنا واحد زائد واحد يساوي اثنين لكنه قياس مادي قابل للصحة والخطأ من حيث المعنى .
لنختصر المقام بقولنا أن الكرسي له مادة وهيئة فمادته الخشب والحديد والمسامير وهيئته شكله على أنه كرسي .. بعد هذا نأتي للمطلب .. ان الفساد الذي يعم هذه المعمورة أحد أسبابه الرئيسية الخلل الواضح في الهيئة لا المواد , ولنطلق عليه المشروع الشيطاني , فلا يخفى على أحد أن أسباب الفساد والشر منبعة النفس التي تعبد الشيطان , فالعبادة التي نقصدها هي اطاعة الشيطان .. فاتباع الهوى اتباع للشيطان بالضرورة ان كان مقابلا للنص الالهي كذا الحال مع بني آدم في عبادتهم للشيطان واطاعتهم له بكل ما يقابل الوحي الالهي .
هذا فيما يخص عبادة الشيطان , ولنعبر عن المسألة بنحو أسهل حيث أن الانسان له عقل وعاطفة ومتى ما غلب العقل العاطفة وقع الانسان في المفاسد ومتى ما صار العكس وقع الانسان بالخيرات , والعاطفة التي نتكلم عنها هي الشهوات المودعة في الانسان , والعقل هو الفكر السليم فتغليب العاطفة على العقل من اطاعة الشيطان وتغليب العقل على العاطفة من اطاعة الله عز وجل . هذا المشروع الشيطاني استغل فينا حالات الضعف أمام شهواتنا ورغباتنا السلبيّة فأوقعنا بما نندم عليه , فالاسلام حينما يجزم أن الخمر حرام , فما يكون منه الا وضع القياس المنطقي للفكر السليم بجانب يعطيه الأحقيّة في شربه ؟ّ!
فيخلق له قياسا يعتبره منطقيا للوقوع بالمحظور , فيقول ان الخمر لم تنزل به آية تقول أنه حرام بهذا اللفظ , كذلك أن من يشرب الخمر يكون فاسقا وليس كافرا , كذلك أن هذه معصيّة وباب التوبة مفتوح .. فجميع هذه المقدمات تجعله يتجرأ على فعل الحرام دون أن يلحظ وقوعه بالمحظور ودون أن يلحظ تركه لمقدمات أساسيّة صحيحة , فعندما قال أن الخمر لم تنزل به آية تقول بأنه حرام صراحة ترك المقدمة القائلة بأن كلام الله ورسوله وجب أن يطاع وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرّم الخمر بلفظ ( حرام ) , وعندما قال بأن من يشرب الخمر فاسقا وليس كافرا , لم يعلم أن شرب الخمر سوف يجعله يعطّل أهم ركن وهو الصلاة وتاركها متعمدا يطلق عليه الكفر – بغض النظر عن أيّ نوع من أنواع الكفر -, وعندما يقول أن هذه معصيّة وباب التوبة مفتوح ترك المقدمة التي تقول أن الانسان لا يضمن أيّ ساعة يموت .. فوضع مقدمات صحيحة وغفل عن مقدمات صحيحة آخرى ووضع مادة صحيحة بشكل وهيئة خاطئة , بل وضع هذه المقدمات الصحيحة في شكل وهيئة سوّغ له الوقوع بالمعصيّة .. فلا أحد يستطيع أن يقول بأن هناك آية تقول ( بأن الخمر حرام ) هكذا باللفظ و لا أحد يستطيع أن يقول بأن من يشرب الخمر كافر , ولا أحد يستطيع أن يقول بأن باب التوبة مغلق ..
كل ما وضعه المقدم على شرب الخمر قياس منطقي صحيح المادة لكّنه غير صحيح الهيئة والشكل , لوجود مواد أخرى تعطّل قياسه .. تعالوا لنطبق ذلك على أتباع العلمانيّة الجدد.. فأصحابنا يضعون قياسات منطقيّة صحيحة المواد لكنها غير صحيحة الهيئة والشكل . وأعظم المواد الصحيحة التي يضعونها لنا هي قولهم بأن هناك من يستغل الدين فهذا ما لا غبار عليّه ولا ينكره سوى الجاهل و الغافل , فهذه القاعدة أخذوا يطبقونها على جميع أمور الدين , فان قلنا الحجاب صاحبوا زميلنا أعلاه الذي قال وصل الى شرب الخمر بمقدمات صحيحة لا غبار عليها , لكنها في شكلها وهيئتها خاطئة , وان قلنا زكاة كان كذلك وهلم جر ..
فلو اتبعوا القياس المنطقي الصحيح الذي يؤدي الى الفكر السليم لما وقعوا بذلك , وأبشر أن هذه المسألة قائمة في جميع أمور حياتنا .. وليست مختصة بالواقع بالمعصية ولا العلمانية وان كانت كشواهد , بل هي واقعة بين المذاهب الاسلاميّة والمذاهب الفكريّة جميعا , لهذا أتى دور العقل كمنقح لهذه المسائل والعنصر الأساسي في الوصول للكمال .
هذه فقط جزئية صغيرة ويمر عليها مرور الكرام عند قراءة وتدريس المنطق .
استدراك ..
مع تطبيق ما سبق من بيان من مادة وهيئة على الواقع السياسي الكويتي تتجلى الأمور أكثر .. كثيرا ما تشغل الساحة السياسية بتصريحات ومناقشات حول قضيّة معيّنة , فتتوالا ردات الفعل ولنأخذ حادثتين أشغلتا الشارع السياسي برمّته ..
حادثة التأبين من يلاحظ الجزئية المنطقية التي تم شرحها مسبقا ويطبقها على حادثة التأبين سوف يخرج بنتيجة تقرر ما تم شرحه وتؤيده .. ان حادثة التأبين ببساطة هي عبارة عن مقدمات صحيحة لا غبار عليها لكن الاشكال عليها كان هيئة وشكلا .. فالمؤبنين تمسكوا بنصوص دستورية صحيحة فلهم حريّة التعبير والاعتقاد والفيصل هو الدستور الذي حكم بذلك , لكن يا ترى لم خرجت كل هذه الموجة العارمة بأن تشنّع على المؤبنين وتضرب بهم وطنيا وعقديا ؟
انها الهيئة والشكل التي وضع بها المؤبنون , فصاروا أعداء الشعب الأوائل والراقصين على دمائه , كل هذا لأن حرية الاعتقاد وحرية التعبير مكفولة كذا الحريّة الشخصيّة , لكن القالب الذي وضعوا به على أنهم مجرمين أيضا صحيح , فالمجتمع الكويتي لا يسمح بأن يتجرأ عليه الآخر بدعوى حريّة الفكر والتعبير فالمسألة أصبحت أكبر من كونها مقدمات صحيحة , بل صارت هيئة وشكل خاطئ ..
أما المثال الآخر هو استجواب وزير الداخليّة , فلو تتبعنا قول نائب نائب لوصلنا الى أن أغلب النواب تبريراتهم صحيحة ولا اشكال فيها , ولنلّخص التبريرات .. ان بعض النواب قالوا بأن هناك خمس ملايين سرقت بين ليلة وضحاها , ويجب أن يحاسب المسؤول , البعض الآخر التزموا نصا من المحكمة الدستورية يحكم بأن الوزير الجديد لا يتحمّل المسؤولية حتى لو كان بصفته فالمسألة أنه وزير جديد غير السابق , أما الرأي الثالث هو أن الوزير قد أحال هذا الأمر للنيابة فلا مجال للمزايدة والتشكيك , ألا ترون أن جميع المقدمات صحيحة ؟ ألا ترون أن الجميع محق في وجهة نظره ؟ هذه المقدمات كلّها لا تنفي الهيئة والشكل على أن هناك خمس ملايين ذهبت أدراج الرياح , أو بالأحرى الى بعض الجيوب ..
فالمسألة أن أتباع النواب المؤيدين للاستجواب وضعوا المسألة بالهيئة والشكل , أما أتباع النواب المعارضين للاستجواب أخذوا المسألة من ناحية المادة .. منطقيّا ان المادة والهيئة وجب أن لا يتعارضان , وعند الكشف عن التعارض نرى من أين هو , فتتجلى لدينا الأمور بكل سهولة ..
فتأمّل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق