![]() |
قيمة كل علم تكمن بتفاصيله وما الحياة سوى تفاصيل كثيرة الأعلم بها هو الأعرف بتفاصيلها وهو الأقدر على جمعها حتى يكوّن فكرة شمولية تساعده في مسيرته نحو أهدافه وطموحاته , نعم ربما لا يكون لديه أهداف وطموحات واضحة ومحددة وربما لا تكون لديه أهداف وطموحات كبيرة لكنه بالتأكيد سيستفيد من التفاصيل التي يملكها .
هذه التفاصيل عبارة عن مواقف مرّ بها الانسان وتعامل مع أغلب معطياتها بقرارات خاطئة وتارة صائبة , المهم أنه يستمر بالحياة وكل إنسان يحمل قدرا ولو بسيطا من التفاصيل التي تجعله يتكيّف مع محيطه , وبالتالي تتكون لديه " الصورة الكبيرة " وهذه الصورة مفهوم مشكك يختلف من فكر وعقل وذهن شخص إلى آخر كما أنها مفهوم طولي ونسبي , ولن يصل أحد الى " الصورة الكبيرة " الأشمل والأكبر إلا من عصم .
لدينا معادلة تتكون من جزئيات " تفاصيل " توصلنا إلى كليات " الصورة الكبيرة " وبينهما تطبيقات عملية يسبقها أفكار نظرية , هذه المعادلة المعقدة نستعملها يوميا وبعفوية تامة من خلال أفعالنا ونشاطاتنا ولعل باب الأمثلة إن فتح لن يغلق ! لأن مجرد الكلام عن أيّ إنسان في هذه المعمورة سيعطينا تفاصيل لم نتخيل أنها موجودة .
دور العلماء هو الإطلاع على هذه التفاصيل بـ" دقــة " ومن ثم اخراجها بأفضل صورة لهذا أصبحوا علماء , ويلي هذه الفئة المثقفين الذين يطلعون على بعض التفاصيل ولكن بشكل يفوق الإنسان العادي " العامي " , والمعضلة التي تعاني منها البشرية في هذا العصر هي أن " العامي " صار يطّلع على كم هائل من المعلومات بثوان ! بواسطة وسائل التواصل الإجتماعي .
وهذا أدى الى ظهور طبقة شاذة وغريبة من حيث الترتيب فالنحو المعروف هي طبقة العلماء ثم المثقفين ثم العوام , أو قل كما ورد في الرواية " الناس ثلاثة : اما عالم رباني , أو متعلم على سبيل نجاة , أو همج رعاع " هذا الترتيب أضاف عليه العصر الحديث طبقة ( الهمجي المتعالم ) !
من ناحية العالم الرباني هو الذي يفحص ويمحّص الأدلة ويطلّع على التفاصيل ويخرج بفكرة وقاعدة عامة يستفيد منها الأعم الأغلب من البشر - نعم قد تكون ناقصة لكنّه بذل غاية المجهود في فحص تفاصيلها حتى يخرجها لنا بهذه الصورة الشمولية - ويلي ذلك المثقف الذي يأخذ آراء العلماء من كل مكان ويكوّن على أثرها فكرة شمولية أخرى .
ويلي المثقف الهمجي الذي ينعق خلف كل ناعق ويميل مع كل ريح وهذا حال الأعم الأغلب من البشر , فهم لا يدققون ولا يمحصون ولا يكلفون أنفسهم بالبحث ومراعاة الدقة , يأخذون ما يقال لهم على أنه قرآن منزل مهما كان سخيفا وساذجا ويطبقونه في حياتهم حتى لو وصلت السذاجة بهم الى أن يطبقوا الأمر ونقيضه بآن واحد !
أما الهمجي المتعالم فهو يتطفّل عليهما - العالم والمثقف - بما لديه من معلومات هائلة متدفقة عليه يوميا ويطرح أفكاره تارة بشمولية ينافس بها العلماء والمثقفين وتارة أخرى ببساطة وسذاجة لا يعلى عليها ! وهذه الحالة حذرّت منها بعض الروايات بقولها " عمل الإنسان بغير علم حتى لو أصاب فلا ينفعه ! " .
نعم لأنه أصاب واقعا دون الإلتفات الى تفاصيله ولم يدقق ببحثه ولم يفهم منطلقات الفكرة ولا أسسها فلما يتفق مع العالم بالنتيجة لا يعني أنه عالم , وهذه هي مصيبة العصر !
الكل ينظّر والكل يفهم والكل يعلم وهذا للأسف أصبح واقعا وظاهرة لا يمكن انكارها , فأيّ حدث وبأيّ مجال كان تفاصيله تنشر ويطّلع عليها المختص وغير المختص فيكون الحدث بذاته مثيرا للجدل لأنه يحمل مع إعلانه تفاصيله الحقيقية أو غير الحقيقية , وتبدأ موجه التنظير على أعلى صعيد , نعم يستتبع هذا مراعاة المزاج العام للمجتمعات وهو ما يؤثر في انتشار وانحسار أيّ حدث .
نحن ننشد النظرة الشمولية التي تستبطن قواعد عامة يستفيد منها الجميع في حياته العملية وهذه القواعد مفقودة لدى الأعم الأغلب ومختصّة بالمختص ومن يليه , وقد ورد في الروايات أن بعضا من الأئمة عليهم السلام ودوا لو أنهم يضربوا الشباب المؤمن على أن يتعلموا !
وجب التنويه الى أن المعلومات الهائلة التي تردنا يوميا وهي موجهة بالفعل لتوجيه الرأي العام من خلال خلق عقل جمعي يقول ما يملى عليه ليست كالأدلة , فالمعلومة شيء والدليل شيء آخر .
التنظير أصبح سهلا ولا يحتاج إلى إفناء العمر من أجله بل يحتاج الى وسيلة إتصال وينتشر بالمجتمع , و للأسف أيضا لا يوجد من لديه نظرة شمولية لهذه الحياة يعرضها على العوام بشكل مقنع , ولكن هذه سلبيات وعوائق وحواجز نحن نصنعها ونستطيع هدمها والكل متفق على أن هدمها يكون بــ " العلم " .
أيّ علم ؟! نعم وصل التشكيك حتى بالعلم اللدني المعصوم ولكن هذا ليس عائقا أيضا , لأنه بنظرة واحدة لـ " الصورة الكبيرة " نجد أن هذا الدين - الإسلام - أراد من المؤمنين خمس أشياء فقط ! أن يفعلوا الواجب ويتركوا الحرام ويتحلوا بمكارم الأخلاق ويعقدوا النية و " الولاية " .
من يعمل بهذه القواعد سيرى أن الدين شامل ويعطي الحلول تحت أيّ ظرف كان , و أختم بهذه المثال .. وجد دين وله أتباع وأوجدت نظريات وتفسيرات واجتهادات لمعرفة حقائقه ومعانيه وأهدافه وأساليبه هذا بحد ذاته يجعله حيا وقائما ويحفظ أساساته وما دون ذلك آراء قابلة للخطأ والصواب ؛ وكل ما ارتبط بالسماء سيبقى حيا لأنه صدر من مصدر الحياة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق